المصالحة العربية قبل الفلسطينية
فهمي هويدي
أكان لاسرئيل ان تفترس غزة على هذا النحو الذي رأيناه هذا الاسبوع ، والبيت العربي على قلب رجل واحد ، ومصر هي الضمير الذي نعرفه؟.(1)لا يستطيع المرء ان يخفي قلقا مضاعفا على مصر في العام الجديد. مرة بسبب الهم الاقتصادي الذي نسأل الله ان يلطف به فينا. ومرة بسبب تداعيات الانفعالات التي نتمنى على اهل السياسة ان يكبحوا جماحها ويسعوا الى ترشيدها. واذا كان العالم يشهد الان مراجعات اساسية لقواعد الاداء الاقتصادي بعد صدمة الانهيار الذي شهده سوق المال في الولايات المتحدة. فاحسب اننا بحاجة الى اجراء مراجعة مماثلة لمسار الاداء السياسي بعد الانقضاض الاسرائيلي الوحشي على غزة.ادري ان البعض في مصر يئسوا من اجراء تلك المراجعة المنشودة لاسباب اتفهمها ، لكنني انبه الى ان الاداء السياسي المصري خلال العام الذي نودعه لم يخل من بعض الومضات التي تفسح المجال للأمل في امكانية اصلاح العطب الذي اصاب بوصلة التحرك السياسي. تمثلت تلك الومضات في مؤشرات الحضور السياسي المصري علي الصعيد الاقليمي ، في لبنان والسودان ومسعى المصالحة الوطنية الفلسطينية (الذي لم يحالفه التوفيق) والدعوة الى اجتماع الدول المطلة على البحر الاحمر للنظر في مكافحة القرصنة التي نشطت على الحدود الصومالية.هذا النشاط المحدود اثار انتباه بعض المعلقين ، خصوصا اولئك الذين يفتقدون دور مصر ويتمنون ان تستعيد دورها ومكانتها. من هؤلاء كان الاستاذ رغيد الصلح المثقف اللبناني البارز الذي نشرت له صحيفة الحياة الللندنية في 27 ـ 11 مقالا تحت عنوان: كيف تستطيع مصر استعادة ثقلها العربي؟ في هذا المقال قال الكاتب انه اذا كان من الصعب ان تسترد مكانة حازت عليها خلال القرن الفائت ، عندما كانت اولى دول المنطقة في الثروة والنظام الديمقراطي البرلماني والتحرر الوطني والريادة الثقافية والفكرية ، اي على كل صعيد من صعد التقدم ، فانه ليس هناك ما يحول دون تنمية مكانتها العربية ، بحيث تكون على الاقل أولي بين متساويين. وذكر ان القوة الاقليمية التي ينبغي ان تسعى الها مصر هي تلك التي تستمد من دعم دول المنطقة وشعوبها وتضامنها معها ، وتعبر عن مواقفها ومصالحها في المجتمع الدولي. وبعد ان استعرض الكاتب بعضا من معالم التحرك المصري الاقليمي على مدار العالم تساءل عما اذا كان التحرك مجرد ممارسات محكومة بأوانها ، ام انها تعبر عن استراتيجية واضحة المعالم والاهداف؟.(2)خلال الشهر الذي اعقب نشر المقال شهدت الساحة المصرية تطورات شككت في الاجابة عن السؤال ، اذ بدت القاهرة منفعلة ومتجهة الي التصعيد والتسخين على ثلاث جبهات هي: حماس وحكومة غزة ، وسوريا وايران. وهذا التسخين عبر عنه الاعلام الرسمي والصحف القومية بصورة خرجت علي المألوف. وبصرف النظر عن تقييم مواقف تلك الاطراف ، فان الحوار النقدي الذي عبرت عنه وسائل الاعلام الرسمية وشبه الرسمية في مصر - ولا يجادل احد في انه صدى للموقف السياسي - بدا واضحا فيه انه متجه الى الصدام والقطع ، وليس الى التصويب والوصل - وللاسف فان الاسلوب الذي استخدمته بعض الاقلام المحسوبة على السلطة لم يهبط بمستوى الحوار النقدي فحسب ، وإنما اساء إلى صورة بلد كبير كمصر يتوقع الآخرون منه حواراً أرقى ، ورؤية أكثر نضجاً تتحرى المصالح العليا ، وتفرق بين العدو والشقيق أوالصديق ، وبين تناقضات أساسية ينبغي الانتباه إليها ، وتناقضات ثانوية ينبغي تجاوزها والاستعلاء فوقها.إن أخطر ما في المبالغات التي عبر عنها الاعلام الرسمي والقومي في مصر ، أنها صورت الاختلاف في المواقف والاجتهادات السياسية مع هذه الاطراف الثلاثة بحسبانه تناقضاً أساسياً ، وتجاهلت أن التناقض الأساسي الحقيقي هو بين هذه الأطراف جميعاً وبين اسرائيل بالدرجة الأولى. الأمر الذي أوقع بعض المشاركين في حملة التحريض والتهييج في أخطاء مشينة ، كان من بينها مثلا أن أحدهم اعتبر أن حصار غزة مسئولية ايرانية وسورية أكثر منه مسئولية اسرائيلية.ولا أريد أن استرسل في عرض أمثال تلك النماذج المخجلة ، حتى لا يظن أنها تعبر عن مواقف المثقفين المصريين ، لأنها في حقيقة الأمر لا تعبر إلا عن مواقف الذين اختارتهم السلطة بمواصفات معينة ليكونوا أبواقاً لها في ظرف تاريخي خاص.المدهش في الأمر أن الاعلام المصري يصعد الاشتباك مع هذه الأطراف الثلاثة ، في حين يزداد التعاطف الأوروبي مع المحاصرين في غزة ، وتتحدث الإدارة الامريكية الجديدة عن حوار مباشر مع ايران وسوريا. وتمد فرنسا جسورها مع سوريا بما مكنها من أن تقوم بدور الوساطة بينها وبين لبنان. أما الغريب وما يتعذر تصديقه ، فهوما نشرته صحيفة الحياة اللندنية في العناوين الرئيسية للصفحة الاولى من عدد 25 ـ 12 ، من أن الرئيس مبارك أبدى تحفظاً علي الوساطة الفرنسية بين سوريا ولبنان. ونقلت عن مصدر تابع زيارة رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا فيون لمصر ، أن الرئيس مبارك قال له أن فرنسا تخطئ إذا اعتقدت أن سوريا تسعى لاستقرار لبنان ، لأنها تريد السيطرة عليه. ورغم خطورة التصريح الذي تشتم منه رائحة التحريض المصري على سوريا ، فإن أحداً لم يكذبه من القاهرة.(3)سألت أكثر من واحد من الدبلوماسيين المخضرمين والخبراء في مصر: إلى أين يذهب هذا التصعيد ، ووجدت أن حيرتهم لاتختلف كثيراً عن حيرتي ، إذ لم يستطع أحد منهم أن يتنبأ بنهاية ذلك المطاف. لكن واحداً فقط قال أنه يمكن أن ينتهي بوضع خطوط فاصلة بين معسكري "الاعتدال" والتطرف في العالم العربي ، بحيث يصطف الموالون لأمريكا واسرائيل في جانب والمعارضون في جانب آخر. ومعروف أن وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس كانت قد أطلقت هذا التصنيف لأول مرة في شهادة لها أمام الكونجرس عام 2007 ، ثم اختبرت الفكرة بنجاح نسبي في عام 2008 ، وقد تدخل حيز التنفيذ بحيث تصبح جزءاً من الخريطة السياسية للمنطقة في العام الجديد (2009).الآخرون أبدوا تحفظاً على تأييد هذا التقييم ، ومنهم من حذر من استباق الأحداث قائلاً بأنه من الحكمة انتظار وضوح موقف الادارة الأمريكية الجديدة ، التي تبنى رئيسها فكرة الحوار المباشر مع ايران وسوريا (لتأمين الانسحاب العراق) الأمر الذي إذا تحقق فقد يسفر عن نتائج تغير من الخرائط المطروحة في الوقت الراهن.رغم الحيرة في التنبؤ بمصير التصعيد الراهن ، فالقدر الثابت أن الأمور وصلت إلى درجة تورث شعوراً قوياً بالخزي والخجل. ذلك أن الجسور تقطعت في العالم العربي ، والمعايير انقلبت بحيث أصبح من السهل أن تجيء تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الاسرائيلية إلى القاهرة وتطلق منها تهديداً بتدمير الفلسطينيين (لا يعلق عليه وزير الخارجية المصري،) ، في حين يبدو من الصعب في ظل التسخين الراهن أن يتبادل وزيرا الخارجية المصري والسعودي الزيارات مع وزير الخارجية السوري.هذه اللقطة الأخيرة تستدعي إلى أذهاننا مشهداً مماثلاً في الساحة الفلسطينية. ذلك أن السيد أبومازن له خطوطه المفتوحة ولقاءاته المستمرة مع القادة الاسرائيليين ، لكنه لا يزال يرفض بشدة أن يجتمع مع قادة حركة حماس الذين انتخبهم الشعب الفلسطيني. ولا يبدوأن مثل هذا اللقاء بين الأخوة الأعداء يمكن أن يتم في الأجل القريب.إذا دققت في الحالتين فستجد الموقف فيهما واحداً ، بمقتضاه انقلبت الآية ، بحيث أصبح الغريب قريباً والقريب غريباً ، ولم يخل الأمر من الاستعانة بالغريب على القريب. وهي حالة ليست شاذة في التاريخ العربي والاسلامي. فقد شهدت بلاد الشام والاندلس قبل سقوطهما تقاطعات بين الولاة المسلمين أوصلت بعضهم إلى الاستعانة بالصليبيين والفرنجة ضد إخوانهم المسلمين. الأمر الذي انتهى بهزيمة الجميع واندثارهم.(4)في أكثر من خطبة ألقاها الرئيس مبارك هذا الشهر تكرر نداؤه للفلسطينيين داعياً إياهم إلى التصالح وإنهاء الانقسام فيما بينهم. كما أن الخطاب السياسي العربي باختلاف مصادره ما برح يردد هذه الدعوة ، حتي قال أمين الجامعة العربية السيد عمرو موسى وأكثر من مسئول ومعلق عربي بأن الانقسام الراهن من شأنه أن يصيب القضية في مقتل ، بما يؤدي إلي تصفيتها في نهاية المطاف. رغم أن أحداً لا يستطيع أن يعبر عن سعادته بالانقسام - باستثناء الاسرائيليين وغيرهم من المنتفعين به بطبيعة الحال - إلا أنني أزعم بأن ما يهدد القضية الفلسطينية حقاً هو الانقسام العربي قبل الانقسام الفلسطيني ، وأن العواصم والأصوات العربية التي ما برحت تصيح منددة بالانقسام الفلسطيني وخطره على القضية يريد بعضها على الأقل أن يغطي بعلو الصوت الانسحاب من القضية والتفريط فيها.إن الانقسام وارد دائماً في صفوف الحركات الوطنية وحركات المقاومة بوجه أخص. والصراع بين الأجنحة المنقسمة له تاريخ طويل في أوساط المناضلين والساحة الفلسطينية ليست استثناء في ذلك. إذ عرفت الانقسام منذ الثلاثينات في مواجهة الاحتلال البريطاني ، خصوصاً بين جماعة النشاشيبي والحسيني. بل إن أسرة النشاشيبي شكلت وقتذاك جناحاً مسلحاً باسم "فصائل السلام" ، كانت تلاحق الثوار من اتباع الحسيني وتسلمهم إلى الانجليز ، بمقتضى "التنسيق الأمني" معهم ، إذا استخدمنا مصطلحات هذا الزمن،. ومن ذلك الحين تتابعت الانشقاقات التي افرزت في السبعينات حالة دموية مثلها صبري البنا (أبو نضال) الذي قتل العشرات من الشخصيات الفلسطينية.طوال تلك التقلبات ظلت حرمة القضية مصونة لا تمس لسبب جوهري ، هو أنه كان هناك سياج عربي ظل مسانداً للتحرير والمقاومة طوال الوقت. صحيح أنه كان هناك تمايز في المواقف والاجتهادات ، لكن أياً منها لم يمس صلب القضية وثوابتها ، حتي في ظل هزيمة يونيوعام ,67 ومنذ وقعت اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر واسرائيل في عام 1979حدث أول اختراق في السياج العربي ، الذي كان بداية لانفراط الإجماع حول القضية ، وانفتاح الأبواب حول الاجتهاد حتى في ثوابتها ، حتى وجدنا قيادة فلسطينية تصف العمليات الاستشهادية بأنها "حقيرة" ، ووجدنا آخرين يساومون علي الأرض وعلي حق العودة. كما وجدنا دولاً عربية تسهم في بناء الجدار العازل وتوفر النفط والغاز لآلة الحرب الاسرائيلية ، التي تسحق الفلسطينيين.حين انهار السياج العربي انهار البيت الفلسطيني وأصبح التفريط في ثوابت القضية والمساومة عليها يتم جهاراً نهاراً أمام كل الأعين. الذي لا يقل أهمية عن ذلك وخطورة أن الشقاق العربي صار سنداً للتشرذم الفلسطيني ونقطة الضعف الحقيقية في ملف القضية. الأمر الذي يدعونا إلى القول بان الانقسام الفلسطيني لن يلتئم عقده الا إذا تصالح العرب أولاً ، خصوصاً محور القاهرة الرياض دمشق ، وهو المثلث الذهبي الذي باتصال أضلاعه يؤمن السياج للقضية ، وبانفصالها تصبح القضية في مهب الريح. وذلك هو الحاصل الآن.
Date : 30-12-2008
أكان لاسرئيل ان تفترس غزة على هذا النحو الذي رأيناه هذا الاسبوع ، والبيت العربي على قلب رجل واحد ، ومصر هي الضمير الذي نعرفه؟.(1)لا يستطيع المرء ان يخفي قلقا مضاعفا على مصر في العام الجديد. مرة بسبب الهم الاقتصادي الذي نسأل الله ان يلطف به فينا. ومرة بسبب تداعيات الانفعالات التي نتمنى على اهل السياسة ان يكبحوا جماحها ويسعوا الى ترشيدها. واذا كان العالم يشهد الان مراجعات اساسية لقواعد الاداء الاقتصادي بعد صدمة الانهيار الذي شهده سوق المال في الولايات المتحدة. فاحسب اننا بحاجة الى اجراء مراجعة مماثلة لمسار الاداء السياسي بعد الانقضاض الاسرائيلي الوحشي على غزة.ادري ان البعض في مصر يئسوا من اجراء تلك المراجعة المنشودة لاسباب اتفهمها ، لكنني انبه الى ان الاداء السياسي المصري خلال العام الذي نودعه لم يخل من بعض الومضات التي تفسح المجال للأمل في امكانية اصلاح العطب الذي اصاب بوصلة التحرك السياسي. تمثلت تلك الومضات في مؤشرات الحضور السياسي المصري علي الصعيد الاقليمي ، في لبنان والسودان ومسعى المصالحة الوطنية الفلسطينية (الذي لم يحالفه التوفيق) والدعوة الى اجتماع الدول المطلة على البحر الاحمر للنظر في مكافحة القرصنة التي نشطت على الحدود الصومالية.هذا النشاط المحدود اثار انتباه بعض المعلقين ، خصوصا اولئك الذين يفتقدون دور مصر ويتمنون ان تستعيد دورها ومكانتها. من هؤلاء كان الاستاذ رغيد الصلح المثقف اللبناني البارز الذي نشرت له صحيفة الحياة الللندنية في 27 ـ 11 مقالا تحت عنوان: كيف تستطيع مصر استعادة ثقلها العربي؟ في هذا المقال قال الكاتب انه اذا كان من الصعب ان تسترد مكانة حازت عليها خلال القرن الفائت ، عندما كانت اولى دول المنطقة في الثروة والنظام الديمقراطي البرلماني والتحرر الوطني والريادة الثقافية والفكرية ، اي على كل صعيد من صعد التقدم ، فانه ليس هناك ما يحول دون تنمية مكانتها العربية ، بحيث تكون على الاقل أولي بين متساويين. وذكر ان القوة الاقليمية التي ينبغي ان تسعى الها مصر هي تلك التي تستمد من دعم دول المنطقة وشعوبها وتضامنها معها ، وتعبر عن مواقفها ومصالحها في المجتمع الدولي. وبعد ان استعرض الكاتب بعضا من معالم التحرك المصري الاقليمي على مدار العالم تساءل عما اذا كان التحرك مجرد ممارسات محكومة بأوانها ، ام انها تعبر عن استراتيجية واضحة المعالم والاهداف؟.(2)خلال الشهر الذي اعقب نشر المقال شهدت الساحة المصرية تطورات شككت في الاجابة عن السؤال ، اذ بدت القاهرة منفعلة ومتجهة الي التصعيد والتسخين على ثلاث جبهات هي: حماس وحكومة غزة ، وسوريا وايران. وهذا التسخين عبر عنه الاعلام الرسمي والصحف القومية بصورة خرجت علي المألوف. وبصرف النظر عن تقييم مواقف تلك الاطراف ، فان الحوار النقدي الذي عبرت عنه وسائل الاعلام الرسمية وشبه الرسمية في مصر - ولا يجادل احد في انه صدى للموقف السياسي - بدا واضحا فيه انه متجه الى الصدام والقطع ، وليس الى التصويب والوصل - وللاسف فان الاسلوب الذي استخدمته بعض الاقلام المحسوبة على السلطة لم يهبط بمستوى الحوار النقدي فحسب ، وإنما اساء إلى صورة بلد كبير كمصر يتوقع الآخرون منه حواراً أرقى ، ورؤية أكثر نضجاً تتحرى المصالح العليا ، وتفرق بين العدو والشقيق أوالصديق ، وبين تناقضات أساسية ينبغي الانتباه إليها ، وتناقضات ثانوية ينبغي تجاوزها والاستعلاء فوقها.إن أخطر ما في المبالغات التي عبر عنها الاعلام الرسمي والقومي في مصر ، أنها صورت الاختلاف في المواقف والاجتهادات السياسية مع هذه الاطراف الثلاثة بحسبانه تناقضاً أساسياً ، وتجاهلت أن التناقض الأساسي الحقيقي هو بين هذه الأطراف جميعاً وبين اسرائيل بالدرجة الأولى. الأمر الذي أوقع بعض المشاركين في حملة التحريض والتهييج في أخطاء مشينة ، كان من بينها مثلا أن أحدهم اعتبر أن حصار غزة مسئولية ايرانية وسورية أكثر منه مسئولية اسرائيلية.ولا أريد أن استرسل في عرض أمثال تلك النماذج المخجلة ، حتى لا يظن أنها تعبر عن مواقف المثقفين المصريين ، لأنها في حقيقة الأمر لا تعبر إلا عن مواقف الذين اختارتهم السلطة بمواصفات معينة ليكونوا أبواقاً لها في ظرف تاريخي خاص.المدهش في الأمر أن الاعلام المصري يصعد الاشتباك مع هذه الأطراف الثلاثة ، في حين يزداد التعاطف الأوروبي مع المحاصرين في غزة ، وتتحدث الإدارة الامريكية الجديدة عن حوار مباشر مع ايران وسوريا. وتمد فرنسا جسورها مع سوريا بما مكنها من أن تقوم بدور الوساطة بينها وبين لبنان. أما الغريب وما يتعذر تصديقه ، فهوما نشرته صحيفة الحياة اللندنية في العناوين الرئيسية للصفحة الاولى من عدد 25 ـ 12 ، من أن الرئيس مبارك أبدى تحفظاً علي الوساطة الفرنسية بين سوريا ولبنان. ونقلت عن مصدر تابع زيارة رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا فيون لمصر ، أن الرئيس مبارك قال له أن فرنسا تخطئ إذا اعتقدت أن سوريا تسعى لاستقرار لبنان ، لأنها تريد السيطرة عليه. ورغم خطورة التصريح الذي تشتم منه رائحة التحريض المصري على سوريا ، فإن أحداً لم يكذبه من القاهرة.(3)سألت أكثر من واحد من الدبلوماسيين المخضرمين والخبراء في مصر: إلى أين يذهب هذا التصعيد ، ووجدت أن حيرتهم لاتختلف كثيراً عن حيرتي ، إذ لم يستطع أحد منهم أن يتنبأ بنهاية ذلك المطاف. لكن واحداً فقط قال أنه يمكن أن ينتهي بوضع خطوط فاصلة بين معسكري "الاعتدال" والتطرف في العالم العربي ، بحيث يصطف الموالون لأمريكا واسرائيل في جانب والمعارضون في جانب آخر. ومعروف أن وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس كانت قد أطلقت هذا التصنيف لأول مرة في شهادة لها أمام الكونجرس عام 2007 ، ثم اختبرت الفكرة بنجاح نسبي في عام 2008 ، وقد تدخل حيز التنفيذ بحيث تصبح جزءاً من الخريطة السياسية للمنطقة في العام الجديد (2009).الآخرون أبدوا تحفظاً على تأييد هذا التقييم ، ومنهم من حذر من استباق الأحداث قائلاً بأنه من الحكمة انتظار وضوح موقف الادارة الأمريكية الجديدة ، التي تبنى رئيسها فكرة الحوار المباشر مع ايران وسوريا (لتأمين الانسحاب العراق) الأمر الذي إذا تحقق فقد يسفر عن نتائج تغير من الخرائط المطروحة في الوقت الراهن.رغم الحيرة في التنبؤ بمصير التصعيد الراهن ، فالقدر الثابت أن الأمور وصلت إلى درجة تورث شعوراً قوياً بالخزي والخجل. ذلك أن الجسور تقطعت في العالم العربي ، والمعايير انقلبت بحيث أصبح من السهل أن تجيء تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الاسرائيلية إلى القاهرة وتطلق منها تهديداً بتدمير الفلسطينيين (لا يعلق عليه وزير الخارجية المصري،) ، في حين يبدو من الصعب في ظل التسخين الراهن أن يتبادل وزيرا الخارجية المصري والسعودي الزيارات مع وزير الخارجية السوري.هذه اللقطة الأخيرة تستدعي إلى أذهاننا مشهداً مماثلاً في الساحة الفلسطينية. ذلك أن السيد أبومازن له خطوطه المفتوحة ولقاءاته المستمرة مع القادة الاسرائيليين ، لكنه لا يزال يرفض بشدة أن يجتمع مع قادة حركة حماس الذين انتخبهم الشعب الفلسطيني. ولا يبدوأن مثل هذا اللقاء بين الأخوة الأعداء يمكن أن يتم في الأجل القريب.إذا دققت في الحالتين فستجد الموقف فيهما واحداً ، بمقتضاه انقلبت الآية ، بحيث أصبح الغريب قريباً والقريب غريباً ، ولم يخل الأمر من الاستعانة بالغريب على القريب. وهي حالة ليست شاذة في التاريخ العربي والاسلامي. فقد شهدت بلاد الشام والاندلس قبل سقوطهما تقاطعات بين الولاة المسلمين أوصلت بعضهم إلى الاستعانة بالصليبيين والفرنجة ضد إخوانهم المسلمين. الأمر الذي انتهى بهزيمة الجميع واندثارهم.(4)في أكثر من خطبة ألقاها الرئيس مبارك هذا الشهر تكرر نداؤه للفلسطينيين داعياً إياهم إلى التصالح وإنهاء الانقسام فيما بينهم. كما أن الخطاب السياسي العربي باختلاف مصادره ما برح يردد هذه الدعوة ، حتي قال أمين الجامعة العربية السيد عمرو موسى وأكثر من مسئول ومعلق عربي بأن الانقسام الراهن من شأنه أن يصيب القضية في مقتل ، بما يؤدي إلي تصفيتها في نهاية المطاف. رغم أن أحداً لا يستطيع أن يعبر عن سعادته بالانقسام - باستثناء الاسرائيليين وغيرهم من المنتفعين به بطبيعة الحال - إلا أنني أزعم بأن ما يهدد القضية الفلسطينية حقاً هو الانقسام العربي قبل الانقسام الفلسطيني ، وأن العواصم والأصوات العربية التي ما برحت تصيح منددة بالانقسام الفلسطيني وخطره على القضية يريد بعضها على الأقل أن يغطي بعلو الصوت الانسحاب من القضية والتفريط فيها.إن الانقسام وارد دائماً في صفوف الحركات الوطنية وحركات المقاومة بوجه أخص. والصراع بين الأجنحة المنقسمة له تاريخ طويل في أوساط المناضلين والساحة الفلسطينية ليست استثناء في ذلك. إذ عرفت الانقسام منذ الثلاثينات في مواجهة الاحتلال البريطاني ، خصوصاً بين جماعة النشاشيبي والحسيني. بل إن أسرة النشاشيبي شكلت وقتذاك جناحاً مسلحاً باسم "فصائل السلام" ، كانت تلاحق الثوار من اتباع الحسيني وتسلمهم إلى الانجليز ، بمقتضى "التنسيق الأمني" معهم ، إذا استخدمنا مصطلحات هذا الزمن،. ومن ذلك الحين تتابعت الانشقاقات التي افرزت في السبعينات حالة دموية مثلها صبري البنا (أبو نضال) الذي قتل العشرات من الشخصيات الفلسطينية.طوال تلك التقلبات ظلت حرمة القضية مصونة لا تمس لسبب جوهري ، هو أنه كان هناك سياج عربي ظل مسانداً للتحرير والمقاومة طوال الوقت. صحيح أنه كان هناك تمايز في المواقف والاجتهادات ، لكن أياً منها لم يمس صلب القضية وثوابتها ، حتي في ظل هزيمة يونيوعام ,67 ومنذ وقعت اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر واسرائيل في عام 1979حدث أول اختراق في السياج العربي ، الذي كان بداية لانفراط الإجماع حول القضية ، وانفتاح الأبواب حول الاجتهاد حتى في ثوابتها ، حتى وجدنا قيادة فلسطينية تصف العمليات الاستشهادية بأنها "حقيرة" ، ووجدنا آخرين يساومون علي الأرض وعلي حق العودة. كما وجدنا دولاً عربية تسهم في بناء الجدار العازل وتوفر النفط والغاز لآلة الحرب الاسرائيلية ، التي تسحق الفلسطينيين.حين انهار السياج العربي انهار البيت الفلسطيني وأصبح التفريط في ثوابت القضية والمساومة عليها يتم جهاراً نهاراً أمام كل الأعين. الذي لا يقل أهمية عن ذلك وخطورة أن الشقاق العربي صار سنداً للتشرذم الفلسطيني ونقطة الضعف الحقيقية في ملف القضية. الأمر الذي يدعونا إلى القول بان الانقسام الفلسطيني لن يلتئم عقده الا إذا تصالح العرب أولاً ، خصوصاً محور القاهرة الرياض دمشق ، وهو المثلث الذهبي الذي باتصال أضلاعه يؤمن السياج للقضية ، وبانفصالها تصبح القضية في مهب الريح. وذلك هو الحاصل الآن.
Date : 30-12-2008
تابعونا على مدونة
الوعى الصعيدى
رابطها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق