من كواليس حرب ..
أسماء الغول
13/01/2009
ـ يبحث أبو وائل حمودة(58عاماً) عن ابنيه المفقودين تحت مبنى الأمن الوقائي، بمساعدة جرافات كبيرة، ويحاول أن يتماسك، يشعل النار ويجلس قبالة الكانون، عيناه دامعتان، يمر شريط الذكريات في عقله، طفولة ابنيه منير ومحمد، ولحظاته الأخيرة معهما، ولا يزال عنده بريق أمل أن يجدهما، يقول:' لن أخرج من هنا حتى أجدهما'، لكن الناس هناك يؤكدون أنهم أخرجوا سبع جثث وجميعها أشلاء.ـ في البيت، نقلنا التلفزيون عند الممر أمام الباب، ونمنا جميعاً هناك، جاء تهديد اسرائيلي بقصف بيت الجيران الذي يقع بجانب تلك الجهة، فنقلنا إلى الصالة ووضعنا التلفزيون مرة أخرى وكل الوسائد والأغطية، على أمل أن تأتي الكهرباء ونتسلى عن القصف بمتابعة القنوات، ولكن لم تأت الكهرباء وبقينا نركض وراء أي حس أمني بأفضل الزوايا بعداً عن القصف.ـ أحد الأصدقاء ذهب لعزاء أقارب صديقه. دخل العزاء وجلس وبعد فترة اكتشف أنه ليس عزاء صديقه لأنه لم يره، سأل فاكتشف أن هناك ثلاث خيمات عزاء في الحارة ذاتها.ـ والدي مهندس معماري، مدرس في الجامعة الإسلامية، وساهم في تصميم جزء كبير من مباني الجامعة، كلما استهدفت الطائرات بناية ينقل لنا موقعها بدقة، واسم المبنى، فهي مكان عمله منذ عشر سنين، عيناه تدمعان كلما رأى دخاناً يتصاعد من هناك، فهو يشعر أنها اطفاله التي كبرت أمام عينيه.ـ ناصر ابني (4أعوام)، يرتعب من القصف، أقنعناه أنه اذا خاف فإن سمكته السوداء ستخاف أيضاً، ويجب ان يكون شجاعاً. كلما حل قصف جديد، يركض إلى حوض السمكة، ويقول أنا مش خايف، ما تخافي.ـ المكالمات الهاتفية الدولية تنهال على الجميع، كل الأهل والأصدقاء حتى الذين لم يتحدثوا إليك منذ سنين، جميعهم يتصلون يطمئنون، ودائماً في صوتهم احساس بالذنب لأنهم في مأمن بعيد عن الموت، وكذلك لا تمر المكالمة دون أن يذكروا هوسهم بما تبثه قناة الجزيرة.ـ خطوط الهاتف الجوال الداخلية ارتبكت من شدة ضغط الناس مع كل ضربة يطمئنون على أحبائهم، حين أفقد الاتصال مع أحد أفراد عائلتي، اتصل على صديقتي الصحافية نائلة خليل كي تتصل عليهم من رام الله، فمن هناك أضمن، وأوضح، وغالباً ما كانت تحمل لي أخباراً سعيدة.ـ ربما هنا عذرت ماري انطوانيت حين قالت في مجاعة فرنسا. لماذا لا يأكلون كيك؟، فلا يوجد في غزة خبز، لكن هناك الكثير من الفراولة، المزارعون يجابهون الخوف وينطلقون على كاراتهم تحت القصف يبيعون الفروالة، وغالبيتهم من النساء، تقود إحداهن كارتها وكومة فراولة فوقها، وهي تحوقل وتبسمل مع كل انفجار.ـ يتصلون بي يقولون لي وصيتهم، أنا كتبت وصيتي على مسج جوال، وبعثتها لوالدي، هم يصرون على أن يتصلوا بي ويخبروني ماذا أخبر حبيبة مسافرة، أو أصدقاء آخرين على خلاف معهم، أفضل أن يكتب الجميع وصيته ويضعها في جاروره.ـ انفجارات ضخمة تتوالى في ليل معتم ونهار صامت، وشوارع يلفها سكون الإضراب، وتنهدات تملأ قلوب ركاب السيارات القليلة العابرة على عجل، أمهات يتوقعن في أية لحظة أن ينضممن إلى قوائم الثكلى، والجميع يقف في طابور متوقع أن يصله دور الألم.ـ الأصدقاء في قطاع غزة يتصلون ببعضهم ، لا يقولون مرحبا أو كيف الحال؟ بل:هل لا تزالون على قيد الحياة؟، الشاعر خالد جمعة أرسل من إيميله الالكتروني إلى الجميع يسألهم: يا اصحاب لسه عايشين؟ـ في أحد المؤتمرات الصحافية لقيادات مطلوبة رفضت جميع الوكالات استقبالهم، بعد تهديدات اسرائيلية باستهداف برج الشوا الحصري في حال استقبلوهم. إحدى شركات الانتاج الإعلامي خاطرت، واستقبلتهم، الأمر الذي دفع صاحب البرج لتهديد الشركة بايقاف عقد ايجارها، لكن المؤتمر تم، والطائرات حلقت فوقه، دون وقوع مفاجآت.ـ في غزة الموت أصبح يأتي دون ميعاد، تقول سوزان النجار(33عاماً) ممددة بعيون مدهوشة على أحد أسرة الشفاء قائلة، :'كنا قاعدين، بكنس البيت، ومركبة على الشاي، فجأة سمعنا صاروخ ووقع البيت فوق رووسنا'.ـ الكذب مطلوب في ألم مشابه لمعاناة أهالي غزة، فقد دخلتُ غرفة العناية المركزة، رائحة المطهرات هزت قدمي، حتى كدت أقع، خرجت من الغرفة بسرعة، وجدت جدة المصاب علاء أبو القمبز تسألني:'كيف علاء؟ شفت علاء؟'، فاضطررت للاجابة: 'نعم ، كنت جنبه وهو منيح'، ارتسمت الفرحة في عيونها.ـ والدة أحد الشهداء على باب غرفة العناية المركزة تبكي وعيناها سارحتان في ملكوت آخر من الحزن، وأقاربها والمحيطون بها يخبرونها ماذا تقول للكاميرات:' قولي انه ابنك صلى وطلع'، واخرى:'وادعي على الرؤساءالعرب'، وآخر يقول:'سبيكي منهم هؤلاء كلها قنوات كذب ونفاق'.ـ الأطباء يقدرون عمل الصحافيين في مشفى الشفاء إلى درجة غير معقولة، ويسمحون لهم بالتصوير في ممرات العناية المركزة، طالما معهم إذن من إدارة الشفاء، لكن الصحافيين بالغوا في برودهم واستغلال اللحظة بحجة نقلها إلى العالم، مصور يقول لإحدى الأمهات الملكومات: 'الطمي، وابكي، اعملي اكشن'.ـ في مدينة غزة، الكل ميت ومقطوع الأوصال مع وقف التنفيذ، تتابع الاحداث يلف الرأس، فثلاث دقائق من أول العملية الإسرائيلية تسببت في بتر سيقان وأيدي ما يزيد عن المئتي مدني وشرطي.ـ يلفون شهيداً من رأسه إلى قدميه بالبياض بعد أن توقف قلبه في قسم العناية المركزة بالشفاء، والكل ينادي كي يبعدوه عن السرير وينقلوه إلى الثلاجة، فهناك آخر في قسم الاستقبال ينتظر، الشهيد هو فارس العشي، لا يدل عليه سوى اسمه على الملف المعلق عند مؤخرة سريره.ـ أبٌ وصله أن ابنه استشهد للتو في غرفة العناية المركزة، استقبــل الخبـــر بكل حـزن ممزوج باعتزاز غريب، ينبع من مكان هناك في القلب اسمه الوطن، احتضنه الناس والرجال المحيطون بمحبة كبيرة خففت مصابه.ـ بعض الناس مرتبكون، يقارنون دماً بآخر، ولكنهم لا يخفون حزنهم على الدم الجديد، لا يعرفون كيف يصفون مشاعرهم، لكنهم مقتنعون أن العدو هو ذاك الإسرائيلي، إلا أن هناك من يستغل ارتباكهم.
13/01/2009
ـ يبحث أبو وائل حمودة(58عاماً) عن ابنيه المفقودين تحت مبنى الأمن الوقائي، بمساعدة جرافات كبيرة، ويحاول أن يتماسك، يشعل النار ويجلس قبالة الكانون، عيناه دامعتان، يمر شريط الذكريات في عقله، طفولة ابنيه منير ومحمد، ولحظاته الأخيرة معهما، ولا يزال عنده بريق أمل أن يجدهما، يقول:' لن أخرج من هنا حتى أجدهما'، لكن الناس هناك يؤكدون أنهم أخرجوا سبع جثث وجميعها أشلاء.ـ في البيت، نقلنا التلفزيون عند الممر أمام الباب، ونمنا جميعاً هناك، جاء تهديد اسرائيلي بقصف بيت الجيران الذي يقع بجانب تلك الجهة، فنقلنا إلى الصالة ووضعنا التلفزيون مرة أخرى وكل الوسائد والأغطية، على أمل أن تأتي الكهرباء ونتسلى عن القصف بمتابعة القنوات، ولكن لم تأت الكهرباء وبقينا نركض وراء أي حس أمني بأفضل الزوايا بعداً عن القصف.ـ أحد الأصدقاء ذهب لعزاء أقارب صديقه. دخل العزاء وجلس وبعد فترة اكتشف أنه ليس عزاء صديقه لأنه لم يره، سأل فاكتشف أن هناك ثلاث خيمات عزاء في الحارة ذاتها.ـ والدي مهندس معماري، مدرس في الجامعة الإسلامية، وساهم في تصميم جزء كبير من مباني الجامعة، كلما استهدفت الطائرات بناية ينقل لنا موقعها بدقة، واسم المبنى، فهي مكان عمله منذ عشر سنين، عيناه تدمعان كلما رأى دخاناً يتصاعد من هناك، فهو يشعر أنها اطفاله التي كبرت أمام عينيه.ـ ناصر ابني (4أعوام)، يرتعب من القصف، أقنعناه أنه اذا خاف فإن سمكته السوداء ستخاف أيضاً، ويجب ان يكون شجاعاً. كلما حل قصف جديد، يركض إلى حوض السمكة، ويقول أنا مش خايف، ما تخافي.ـ المكالمات الهاتفية الدولية تنهال على الجميع، كل الأهل والأصدقاء حتى الذين لم يتحدثوا إليك منذ سنين، جميعهم يتصلون يطمئنون، ودائماً في صوتهم احساس بالذنب لأنهم في مأمن بعيد عن الموت، وكذلك لا تمر المكالمة دون أن يذكروا هوسهم بما تبثه قناة الجزيرة.ـ خطوط الهاتف الجوال الداخلية ارتبكت من شدة ضغط الناس مع كل ضربة يطمئنون على أحبائهم، حين أفقد الاتصال مع أحد أفراد عائلتي، اتصل على صديقتي الصحافية نائلة خليل كي تتصل عليهم من رام الله، فمن هناك أضمن، وأوضح، وغالباً ما كانت تحمل لي أخباراً سعيدة.ـ ربما هنا عذرت ماري انطوانيت حين قالت في مجاعة فرنسا. لماذا لا يأكلون كيك؟، فلا يوجد في غزة خبز، لكن هناك الكثير من الفراولة، المزارعون يجابهون الخوف وينطلقون على كاراتهم تحت القصف يبيعون الفروالة، وغالبيتهم من النساء، تقود إحداهن كارتها وكومة فراولة فوقها، وهي تحوقل وتبسمل مع كل انفجار.ـ يتصلون بي يقولون لي وصيتهم، أنا كتبت وصيتي على مسج جوال، وبعثتها لوالدي، هم يصرون على أن يتصلوا بي ويخبروني ماذا أخبر حبيبة مسافرة، أو أصدقاء آخرين على خلاف معهم، أفضل أن يكتب الجميع وصيته ويضعها في جاروره.ـ انفجارات ضخمة تتوالى في ليل معتم ونهار صامت، وشوارع يلفها سكون الإضراب، وتنهدات تملأ قلوب ركاب السيارات القليلة العابرة على عجل، أمهات يتوقعن في أية لحظة أن ينضممن إلى قوائم الثكلى، والجميع يقف في طابور متوقع أن يصله دور الألم.ـ الأصدقاء في قطاع غزة يتصلون ببعضهم ، لا يقولون مرحبا أو كيف الحال؟ بل:هل لا تزالون على قيد الحياة؟، الشاعر خالد جمعة أرسل من إيميله الالكتروني إلى الجميع يسألهم: يا اصحاب لسه عايشين؟ـ في أحد المؤتمرات الصحافية لقيادات مطلوبة رفضت جميع الوكالات استقبالهم، بعد تهديدات اسرائيلية باستهداف برج الشوا الحصري في حال استقبلوهم. إحدى شركات الانتاج الإعلامي خاطرت، واستقبلتهم، الأمر الذي دفع صاحب البرج لتهديد الشركة بايقاف عقد ايجارها، لكن المؤتمر تم، والطائرات حلقت فوقه، دون وقوع مفاجآت.ـ في غزة الموت أصبح يأتي دون ميعاد، تقول سوزان النجار(33عاماً) ممددة بعيون مدهوشة على أحد أسرة الشفاء قائلة، :'كنا قاعدين، بكنس البيت، ومركبة على الشاي، فجأة سمعنا صاروخ ووقع البيت فوق رووسنا'.ـ الكذب مطلوب في ألم مشابه لمعاناة أهالي غزة، فقد دخلتُ غرفة العناية المركزة، رائحة المطهرات هزت قدمي، حتى كدت أقع، خرجت من الغرفة بسرعة، وجدت جدة المصاب علاء أبو القمبز تسألني:'كيف علاء؟ شفت علاء؟'، فاضطررت للاجابة: 'نعم ، كنت جنبه وهو منيح'، ارتسمت الفرحة في عيونها.ـ والدة أحد الشهداء على باب غرفة العناية المركزة تبكي وعيناها سارحتان في ملكوت آخر من الحزن، وأقاربها والمحيطون بها يخبرونها ماذا تقول للكاميرات:' قولي انه ابنك صلى وطلع'، واخرى:'وادعي على الرؤساءالعرب'، وآخر يقول:'سبيكي منهم هؤلاء كلها قنوات كذب ونفاق'.ـ الأطباء يقدرون عمل الصحافيين في مشفى الشفاء إلى درجة غير معقولة، ويسمحون لهم بالتصوير في ممرات العناية المركزة، طالما معهم إذن من إدارة الشفاء، لكن الصحافيين بالغوا في برودهم واستغلال اللحظة بحجة نقلها إلى العالم، مصور يقول لإحدى الأمهات الملكومات: 'الطمي، وابكي، اعملي اكشن'.ـ في مدينة غزة، الكل ميت ومقطوع الأوصال مع وقف التنفيذ، تتابع الاحداث يلف الرأس، فثلاث دقائق من أول العملية الإسرائيلية تسببت في بتر سيقان وأيدي ما يزيد عن المئتي مدني وشرطي.ـ يلفون شهيداً من رأسه إلى قدميه بالبياض بعد أن توقف قلبه في قسم العناية المركزة بالشفاء، والكل ينادي كي يبعدوه عن السرير وينقلوه إلى الثلاجة، فهناك آخر في قسم الاستقبال ينتظر، الشهيد هو فارس العشي، لا يدل عليه سوى اسمه على الملف المعلق عند مؤخرة سريره.ـ أبٌ وصله أن ابنه استشهد للتو في غرفة العناية المركزة، استقبــل الخبـــر بكل حـزن ممزوج باعتزاز غريب، ينبع من مكان هناك في القلب اسمه الوطن، احتضنه الناس والرجال المحيطون بمحبة كبيرة خففت مصابه.ـ بعض الناس مرتبكون، يقارنون دماً بآخر، ولكنهم لا يخفون حزنهم على الدم الجديد، لا يعرفون كيف يصفون مشاعرهم، لكنهم مقتنعون أن العدو هو ذاك الإسرائيلي، إلا أن هناك من يستغل ارتباكهم.
كاتبة من فلسطين تقيم في غزة
للمزيد
تابعونا على المدونة الرئيسية
الوعى الصعيدى
رابطها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق